أثار الملف البديع الذى قدمته جريدة «الوطن» عن النجيب والشهيد الشجون وجدد الأحزان، تلك اللقطة الدالة الذكية التى ثبتت فيها «الوطن» الكادر على علاقة مدهشة مابين أعظم روائى عربى وأكبر منظر للإسلام السياسى وجماعات التكفير، انتصرت فيها رؤية المنظر الضيقة على رؤية الروائى الرحبة، وصار المجتمع قطبى المزاج ولم يستطع بعد أن يكون محفوظى الهوى!

نجيب محفوظ ابن الحركة الوطنية المصرية الذى شكلت وعيه ثورة 1919 وكاريزما سعد زغلول وظل لا يبرح مصر كارهاً للسفر وبرغم ذلك نهل من ثقافة الغرب وفلسفته فصار كونى الشهرة منفتح الثقافة ينتمى لهذا العالم بكل أطيافه وبلا أى عنصرية، قدماه مغروستان فى أزقة وحوارى مصر ورأسه مطل على كل ثقافات العالم من شرقه إلى غربه، المدهش أن سيد قطب الذى على العكس سافر إلى أمريكا واطلع على العالم الجديد عاد متقوقعاً منعزلاً يقتات على فكر محدد ضيق داخل الفقه الإسلامى وهو فقه التكفير رافضاً حتى أن ينهل من مدارس إسلامية أخرى فضلاً عن أن ينهل من ثقافات وفلسفات الغرب فقد كانت تلك الثقافات والفلسفات من وجهة نظره كافرة كفراً صريحاً.

كان الزمن يدخر نجيب محفوظ للإبداع كأعظم روائى عربى، وكان يدخر معه أيضاً سيد قطب كأعظم ناقد أدبى عربى، ولكن رهان الزمن على قطب خسر، فقد استنفد عبقريته الأدبية وأجهد قريحته الإبداعية فى وضع ألغام تكفير وجاهلية المجتمع بحيث كان كتابه «المعالم» مانفيستو الإخوان ثم شكرى مصطفى وعبدالسلام فرج وأيمن الظواهرى! وهو الذى كان قدره أن يواصل اكتشافاته الأدبية مثلما اكتشف نجيب محفوظ فى اكتشاف يوسف إدريس وإحسان عبدالقدوس ويحيى حقى.. الخ، ولكنه فضل أن يكون الأب الرسمى لجيل آخر ملامحه مختلفة، يخاصم المجتمع ويعادى الحرية ويغذى شرايين التعصب والتطرف.

ظل نجيب محفوظ مخلصاً لسلامة موسى أستاذه الذى سمح له بالنشر والذى كان عاصفة فكرية فى جدب مصر وصحرائها لكنه للأسف لم يلقح تربتها فعقم تلاميذه عن استكمال تياره وزرع جذوره فى التربة، فاستيقظنا على وهم أن مصر دولة مدنية وهى فى الحقيقة كانت بسماد الوهابية تخصب حقل الدولة الدينية على مهل وبمنتهى الإصرار والنجاح، ساعدها على ذلك أن نجيب محفوظ وجيله التنويرى لم يصل إلى الأرض السوداء ووجدان الفلاح، ظل نجيب بالنسبة لهم مجرد مؤلف لفيلم بين القصرين يقرأون اسمه على التيترات إذا كان منهم من يجيد القراءة أصلاً، يشاهدونه صدفة على شاشات التليفزيون تحاوره مذيعة فى برنامج منوعات خفيف لتسأله عن نظارته السوداء أو هواية المشى أو شيشة قهوة الفيشاوى.. إلى آخر هذه الموضوعات التى يحول بها الإعلام مبدعينا إلى مجرد أدوات تسلية لكسر الملل وملء وقت الفراغ!

للأسف انتصر قطب وانهزم محفوظ!